البلاغة العربيّة
اُستعمل لفظ "بلاغة" قديما وما زال في معنيين اثنين : أوّلهما صفة الكلام الذي يصيب المعنى ويبين عنه فيبلغ السّامع ويؤثّر فيه. وفي هذا المعنى تندرج كثير من التّعريفات منها ما نسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ .وهو أنّ البلاغة: "ما قرب طرفاه وبعج منتهاه" (العمدة، تحقيق محيي الدّين عبد الحميد، ط 4، ج 2، ص 245) وهي عند ابن الأعرابيّ: "التّقريب من البغية ودلالة قليل على كثير" (نفسه، ص 246). وهي عند علي بن أبي طالب: ""إفصاح قول عن حكمة مستغلقة وإبانة عن مشكل" (كتلب الصّناعتين، تحقيق علي محمّد البجاويّ وأبي الفضل إبراهيم، ط 2، القاهرة، 1971، ص 58) وهي عند أحد المتكلّمين - وهو خالد بن صفوان - : "إصابة المعنى والقصد إلى الحجّة" (نفسه ص 48). فهذه الأقوال كلّها واصفة للقول وليست معرّفة بالعلم الذي يسمح بتبيّن صدقية الوصف على قول معيّن. أمّا ثاني المعنيين فهو العلم الذي تُتبيّن به وتُقاس بلاغة القول ودرجات هذه البلاغة. وممّا يدخل في هذا المعنى تعريف أبي يعقوب السكّاكيّ (ت626هـ) البلاغة بأنّها "بلوغ المتكلّم في تأدية المعاني حدّاً له اختصاص بتوفية خواصّ التّراكيب حقّها وإيراد أنواع التّشبيه والمجاز والكناية على وجهها". فقد اشترط للكلام البليغ كمال التّركيب.وهو ما نشأ من أجله علم المعاني .أمّا شرطه الثّاني فهو توفّر خصائص بيانيّة أشار إليها بذكر بعضها .وهو ما نشأ من أجله علم البيان. وجعل لها طرفين أعلى وأسفل متباينين تبايناً لا يتراءى له نارهما وبينهما مراتب تكاد تفوت الحصر متفاوتة. فمن الأسفل تبتدئ البلاغة، وهو القدر الذي إذا نقص منه شيء التحق ذلك الكلام بما شبّهناه في صدر الكتاب من أصوات الحيوانات، ثم تأخذ في التزايد متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه». ( مفتاح العلوم، ص 227، طبعة الحلبي الثّانية ، القاهرة 1990 ). والبلاغة، طبقا لهذا التعريف، لا تشمل البديع وإن كان أحد مكوّناته ابتداء من الجاحظ في البيان والتّبيين مرورا بعبد القاهر الجرجانيّ في أسرار البلاغة على وجه الخصوص، إلى أبي يعقوب السكّاكيّ نفسه الذي كان في مفتاح العلوم شديد التّأثّر بالجرجانيّ. و تجسّد فضله أساسا في تصنيف علم البلاغة إلى الفروع العلميّة الثّلاثة المعروفة اليوم. وهي: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وفي ما يلي تعريفها تباعا:
1- علم المعاني :
علم المعاني هو العلم الذي "يُعرف منه الاحتراز عن الخطإ في كيفيّة التّراكيب، في الإفادة لتمام المراد من المعنى، وفي دلالة المركّب على قيد من قيودها" (ابن النّاظم، المصباح ، تحقيق : حسني عبد الجليل، مكتبة الأدب 1989 ص ص 3- 5) .
2- علم البيان :
علم البيان هو العلم الذي»يُعرف منه الاحتراز عن الخطإ في التركيب ممّا دلالته غير وافية بتمام المراد من وضوح الدّلالة أو خفائها( ابن النّاظم، المصباح في المعاني والبيان والبديع، تحقيق : حسني عبد الجليل، مكتبة الآداب 1989، القاهرة ص ص 3-5 ).
3- علم البديع :
علم البديع هو العلم الذي "تعرف منه توابع البلاغة من طرق الفصاحة" (ابن النّاظم، المصباح في المعاني والبيان والبديع، تحقيق : حسني عبد الجليل، مكتبة الآداب، القاهرة 1989 ص ص 3- 5). وقد زاده جلال الدين الخطيب القزويني إيضاحا في قوله : "هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال، ووضوح الدلالة" (الإيضاح في علوم البلاغة، القاهرة د.ت، 2 / 243 ).
4- الفصاحة:
مبحث الفصاحة في التّراث العربيّ مبحث شاسع . والأصل فيها أنّها الصفة التي وصف بها العرب لغتهم . ومعناها في اللّغة الوضوح ، إذ يقال فصُح الشّيءُ أي خلا ممّا يشوبه ، وأصله في اللّبن ، يقال : فصُح اللّبنُ ، إذا ذهب عنه اللَّبأ ، أي الرّغوة التي تغطّي سطحه ( ابن منظور ، لسان العرب مادّة " ف ص ح " ) . وذلك تمييزا للّغة العربيّة عن اللّغات الأخرى ، تلك التي نعتوها بصفة استهجانيّة هي العُجْمة . والمتّصف بها يقال له أعجمُ ومؤنّثه عَجْماء . والعجماء هي البهيمة لأنّها لا تتكلّم . وكلّ من لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومُسْتعجَم ( نفسه ، المادّة "ع ج م" ) . ولقد تأسّست على هذا المفهوم بعد الإسلام حركة جمع اللّغة وعمليّة التّقعيد النّحويّ وتحديد خصائص اللّغة البلاغيّة .فحُدّدت لها شروط شتّى منها ما هو عرقيّ - وهو أنّ الفصيح هو الأعرابيّ النّقيّ من شوائب الدّم والاختلاط بالأعاجم - ومنها ما هو مكانيّ - وهو أنّ موطن الفصاحة هو المنطقة الشّماليّة من شبه الجزيرة العربيّة التي تضمّ الحجاز ونجد وتِهامة - ومنها ما هو بيئيّ - وهو البادية دون الحاضرة - ومنها ما يتعلّق باللّغة ذاتها والشّخص الذي يتكلّمها . فميّزوا ثمّة بين فصاحة المفرد وفصاحة الكلام وفصاحة المتكلّم . فالأولى هي خلوّ اللّفظ من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس . والثّانية هي خلوّ الكلام من ضعف التّأليف وتنافر الكلمات والتّعقيد مع فصاحته .والثّالثة هي الملكة التي يقتدر بها المتكلّم على التّعبير عن المقصود بلفظ فصيح ( عبد المتعال الصّعيديّ ، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة ، مكتبة الآداب ، ط1 ، ج 1 ، القاهرة د.ت ص ص 10-25 ) . ولكن على الرّغم من أهمّية هذا المفهوم فإنّه لم يُفرَد له قديما سوى كتاب واحد هو سرّ الفصاحة لمحمّد عبدالله بن سِنان الخفّاجيّ ( ت 466 ه ) . وحتّى في العصر الحديث فإنّ الفصاحة غالبا ما تدرس في إطار علم البلاغة . لكنْ لحرصنا على أن تستجيب قاعدة بيانات اللّغة العربيّة لشرط الشّمولية بأن يجد فيها كلّ كتاب عربيّ مهما كان موضوعه وتاريخ صدوره مكانه ، لم نر بدّا من تخصيص هذه الخانة لها ، فضلا عن مراعاتنا لإمكان صدور كتب أخرى عن الفصاحة في المستقبل .